هو أبو عثمان عمرو بن بحر الكتاني البصري الملقب بالجاحظ, وقيل أنه سمي بذلك لجحوظ عينيه أي بروزها, ولد بالبصرة سنة 150هـ وتوفي سنة 255هـ في بغداد أيام الخليفة العباسي المعتز بالله, كان ظهور الجاحظ في زمان الدولة العباسية في وقت وعصر كان زاخرا بالعلم والأدب, ولقد تمكن الجاحظ من القراءة والاطلاع على كتب كثيرة للعديد من فلاسفة العرب ومتكلميهم, وفلاسفة اليونان والفرس المترجمة, وكان مولعا بقراءة الكتب والمؤلفات المختلفة الأخرى.

وقيل إن الجاحظ مات بعد أن وقعت عليه مجموعة ضخمة من مجلدات الكتب, وكان الجاحظ ملازما لمحمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الخليفة المعتصم, وإليه أهدى أحد كتبه وهو كتاب الحيوان فكافأة بخمسة آلاف دينار, وهو مال عظيم في ذلك الوقت , ولقد ذكر المؤرخون أن الجاحظ ترك زهاء 360 مؤلفا في شتى فروع العلم والأدب والفلسفة ولكن أكثرها قد ضاع ولم يصل إلينا إلا النزر القليل, ويعد الجاحظ من طليعة الأدباء الذين مزجوا الثقافة العربية بالثقافات الأجنبية.

إن المتتبع لمؤلفات الجاحظ العديدة يعجب من سعة اطلاع هذا الرجل ويقف حائرا أمام الأساليب العلمية التي اختطها لنفسه في منهاج التأليف والكتابة وتنوع معارفه, وعمق ثقافته عما جعله يهدي عطاء خصبا للناطقين باللغة العربية, وكان الجاحظ يمتلك عقلا قويا لايسع ولا يتقبل الخرافات بل كان يهزأ ممن يقبلها ويدخلها في حسابه,وهو كثير الأحيان يقف على الاعتقاد حين يجرب ويشك ويدعو إلى الشك حتى تثبت صحة النظرية في الوقت الذي كانت فيه أفكار المعلم الأول أرسطو مسيطرة على عقليات أكثر علماء المسلمين, كان الجاحظ يرفض قبول ما يأباه العقل والمنطق حتى ولو كان مصدره أرسطو, وهو لا يقبل بالحواس, حيث يرفضها لأنه يعتقد بأنها معرضة للخطأ مهما أبدت مظاهر الوجود أو أحداث الحياة للناس, من خلال الحواس, حيث أن الواقع يقترن دائما بالعقل ودائما يعتمد على الاستنتاج والاستدلال والمقارنة والمقايسة والمفارقة, وهذه جميعا تستند إلى استخلاص الحقيقة واستقراء النتيجة, وهذا مما جعل الجاحظ متحفظا في قبول الغرائب التي سمع عنها أو طالعها في مؤلفات الآخرين, فهو لايرفضها ولا يتقبلها اعتباطا, وإنما يقف منها بين ذلك الموقف الملتمس وجه الحق لا يعنيه أن يكون ذلك الحق غريبا أو لا. ومن هنا اتبع الحاحظ في كتابه الحيوان نهجا وأسلوبا عقلانيا اختباريا يقوم على المعاينة والمشاهدة والاختبار عندما تقتضي الحاجة لذلك, وسأحاول هنا أن أتناول الأسلوب والنهج الذي اختطه الجاحظ لنفسه في وضعه كتاب الحيوان, ثم مقارنة ما جاء به من وصف وشرح لأنواع الحيوانات وأساليب معيشتها وبيئتها وسلوكها مع ماجاء به علم الحيوان الحديث. وقد استطاع الجاحظ أن يسبق العصر الذي عاش فيه, في غياب الوسائل العلمية التطبيقية التي تواكب البحوث النظرية كما هو متبع الآن في مراكز البحوث ومعاهد الدراسات التطبيقية ذات الاختبار التجريبي.

منهج الجاحظ في دراسة الحيوان:

لقد اختط الجاحظ لنفسه منهاجا علميا بز فيه كل العلماء في مجال دراسته للعلوم عامة والحيوان خاصة, فهو يستهل أي موضوع يتناوله بالتقسيم والتحديد والتعريف فيبدأ بتقسيم الكائنات على الشكل التالي:

إن العلم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء متبق ومختلف ومتضاد, ثم يقسم الحيوان إلى أربعة أقسام شيء يمشي وشيء يطير وشيء يسبح وشيء ينسلخ, ويحاول أن يعطي لتقسيمه هذا علمية أكثر حيث يقول: إلا أن كل طائر يمشي وليس الذي يمشي ولا يطير يسمى طائرا, وبالنظر لدقته في السرد العلمي يأخذ في تحديد الحيوانات التي تمشي فيقسمها إلى أربعة أقسام: (ناس, بهائم وسباع وحشرات) وكذلك يقسم الطيور هذا التقسيم القيم, ويضع كلا منها في مكانها الصحيح : سبع وبهيمة وهمج, والسباع على ضربين: فمنها العقاق, والأحرار ومنها البغاث وهو كل ما عظم من الطير: سبعا كان أو بهيمة إذ لم يكن من ذوات السلاح والمخالب المعقفة كالنسور والرخم والغربان , وما أشبهها من لئام السباع, وعند النظر فيما وصل إليه الجاحظ في مجال تصنيف الحيوانات يتضح للباحث أن هذا العلامة قد سبق كل من حاول تصنيف الحيوانات بصورة أقرب إلى التصنيف العلمي الصحيح, والذي أسنده الأوروبيون إلى العالم السويدي (كارل لينوس) وعند تقسيم الطيور يقارب بين مختلف الحيوانات التي تطير, فليس عنده كل من امتلك جناحا أو طار فهو من الطيور, وهذا كلام علمي له قيمته ويعطي دلالة على اتساع تفكير الجاحظ, كذلك في الحيوانات البحرية فليس كل حيوان يعيش في البحر هو من الأسماك وإنما هناك العديد من الكائنات التي تختلف اختلافا كبيرا من حيث الشكل والموقع التصنيفي والمعيشة والسلوك وليس أيضا كل عائم سمكة, وإن كان مناسبا للسمك في كثير من معانيه, ألا ترى أن في الماء كلب الماء وعنز الماء وخنزير الماء, والسلحفاة وفيه الضفدع, وفيه السرطان والتسماح, ويقوم بمبادرة في غاية الدقة, فهو يقيم التفرقة بين الإنسان والحيوان على أساس جديد من الفصاحة والعجمة وليس على أساس النطق والصمت, فالجميع ناطق إلا أن الحيوان لا يفهم إرادته من نطقه, إلا بنوع جنسه اما الإنسان ففصيح مهما استخدم من لغة غير لغته, وإرادته مفهومة للناطقين بلغته أو بغير لغته ,وقد قام الجاحظ بتفرقته تلك بين الإحساس الذي يتبين عليه ما يأتيه كل من الإنسان والحيوان من أعمال بماجرى في علم النفس الذي لم يعرف في عصره, فهو يبني أفعال الحيوان على الغريزة, ويبني أفعال الإنسان على إمعان فكر وتدبر وتعليم وتدريب فالحيوان وإن أتى بالغريزة, ما قد يعجر عنه الإنسان في عمل معين لا يستطيع أن يأتي عملا آخر أقل من ذلك العلم المعين في جهده ومشقته أو في إتقانه وصنعه, بينما يعجز الإنسان بفكره وتدبيره وتعليمه وتدريبه أن يأتي العمل ما احتاج منه إلى فن وإتقان صنعه ومالم يحتاج كل ذلك أو بعضه.

كان الجاحظ يقول: (اعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة لها, للتعرف على مواضع اليقين والحالات الموجبة لها) ومعنى هذا : اعرف الشك لتعرف به اليقين فالشك في نظره سبيل إلى يقين قاهر.

وفي كثير من الأحوال وجد الجاحظ نفسه يتقبل بعض الأحكام من غير استنتاج ومن غير جدل يستقبلها كأمور بديهية كوجود الخالق وقدرته إذ أن كل ما في الطبيعة ينم عن الخالق وقدرته أما في غير هذه الموضوعات فإن الجاحظ يلزم جانب الحذر وكان يتأكد من صدق حامل الخبر قبل الخبر, وعندما لا يصدق خبرا أو يشك فيه فإنه يثبت ذلك مع استخدام ألفاظ مثل : زعم, يزعمون, وقيل. وكان الجاحظ لا يكتفي بإيراد الزعم ولا سيما إن كان صادرا عن المشهورين من العلماء بل يعمل على مناقشته وتفنيده, ويخرج منه باستدلالات يدحض بها كثيرا من الخرافات والأساطير, فهو نفسه يدعو إلى اعتماد العقل دون الحواس ومما اهتدى إليه الحاحظ بعقله العلمي: الحاد : أن النمل تأخذ من الحب الذي تدخره للشتاء جزء الإنبات والتناسل لئلا يفسد ويتعفن وقد أعجب الباحثون بذلك .

وكان الجاحظ من أشهر علماء العرب في مجال استخدام التجارب والبحوث والمشاهدة في إسناد وضع مؤلفاته, لذلك كا ن الجاحظ يهرع دائما للتثبت مما يسمع عنه, كلما سنحت له الفرص, وحيث يشاهد ويختبر في وقت كان التحقيق العلمي لا يزال في طفولته المبكرة, والخرافات والأساطير منتشرة بين الناس بصورة شائعة, في هذا الوسط كان الجاحظ يراقب ويفسر فعندما يشاهد طائرا قبيح الصوت يسرع إلى صاحبه يسأله عنه, فيجبيب أنه من نتاج صنفين من الطيور, وفي هذ الخبر نرى الجاحظ يلجأ إلى أصحاب المعرفة والتجربة والاختبار ينشد عندهم تفسيرا فهو يسأل أصحاب الطيور عن الطيور, وأصحاب الحيوانات عن الحيوانات وهكذا.

وعن فضل الجاحظ في مجال سلوك الحيوانات والطرق العلمية التي اختطها في بحوثه في هذا المجال نجد الدكتور ( أحمد أمين ) يقول: إن الجاحظ سبق إلى اتجاهات قيمة فيما يسمى سيكولوجية الحيوان, فهو يراقب الديك بالليل, ويبحث هل إذا كان في قرية وحده يصيح أولا , ويراقب الدجاج, ويلاحظ الكلب.

ولقد روى الجاحظ تجارب كثيرة لغيره من معاصريه, وكان مذهبه الذي سار عليه هو التجربة أو الامتحان وكان يتدرج في أساليبه في البحث والتقصي تدرجا عموديا حتى يبلغ الذروة, فهو يتدرج من الغرض العقلي فالاستتناج المبني على المنطق والجد فالرؤية والاختبار والتجربة, والحقيقة أن الجاحظ  قد سبق كثيرا من علماء العصر الحديث في مجال إجراء التجارب والاختبارات فيما يخص الحيوانات فقد جرب على أصناف كثيرة : كالضب والحيات, والنعام والخنفس والأسماك وغيرها الكثير, وكان في كل تجربة من تجاربه الكثيرة يذهب مذهبا خاصا, كما كان يجري التجارب على النباتات, وكان يستخدم بعض المواد الكيمياوية ليتعرف على مدى تأثيرها على الحيوان, وكان في اختباراته يعتمد على نفسه وأحيانا أخرى على بعض اصداقائه من العلما في إجراء هذه الاختبارات العلمية على بعض الحيوانات ليستخلص منها بعض النتائح التي كان يتوخاها الجاحظ نفسه.

لقد كان أثر الجاحظ واضحا وملموسا في أكثر كتب ومؤلفات العرب التي توالت بعد كتاب الحيوان, وكذلك كان أثره كبيرا في مؤلفات الغرب التي تبحث في مجال علم الحيوان لأن هذا العالم العربي الكبير كان جريئا فيما ذهب إليه من الاستنتاجات والأخذ بها, فقد برهن الجاحظ عن دقة ملاحظة وقدرة هائلة على التصوير العلمي وإظهار المفارقات والخصائص التي تميز حيوانا عن حيوان, لأنه كان يعني عناية فائقة في تقصي التفاصيل والجزيئيات وربطها ببعضهاو  وكان يحاول أن يصنف, وكان تصنيفه بدائيا في بعض الأحيان وإن كان لم يفارق ماسبقه من تصنيف ,فالتصنيف العلمي الحق وليد القرن الثامن عشر, أي بعده بنحو تسعة قرون, وكان يحاول أن يضع القاعدة , فمثلا ذهب إلى أن الأرجل عند الحيوانات تكونا أزواجا, فإذا سمع أن لحيوان عددا مفردا أنكره, وكان الجاحظ قد سبق علماء الفسيولوجيا المعاصرين في وصفه العادة وأثرها في الكلاب, وهي التي تسمى في العصر الحاضر (الانعكاسات المشروطة) والتي وضعها العالم ااسوفييتي المشهور (إيفان بافلوف) في بحوث قيمة أدت إلى تقدم علم سلوك الحيوان, ومن أصدق مشاهدات ودقة وأسلوب وبلاغة الجاحظ العلمية ماجاء عن الحمام في إبان تزاوجه ورعاية فراخه وبناء عشه, ومن الدراسات العلمية التي أبدع فيها الجاحظ أيما إبداع ملاحظاته القيمة عن هجرة الطيور, ويقول أن الباعث على رجوع الطيور إلى موطنها هو الحنين إلى الوطن , وفرق الجاحظ بين الطيور المهاجرة التي تترك أوطانها ثم تعود إليها من غير سابق تمرين ومعرفة وبين الحمام الزاجل الذي يتعلم ذلك, وهو بذلك كأنه يريد أن يدلل على أن الطيور تشبه البشر في معرفة المعرفة حيث أن هناك معرفتين هما المعرفة الفطرية والمعرفة العقلية. وللجاحظ ملاحظات كثيرة تشبه فيما يعرف اليوم بعلم الوراثة, فلقد تحدث عن التزواج بين البقرة والجاموس, وبين الذئب والكلبة.